فصل: قال صاحب الكشكول:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فقد روى عبد الرزاق عن قتادة قال: اجتمع أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فرأوْا أنّ كلّ عمل عصي الله به فهو جهالة عمدًا كان أو غيرَه.
والذي يظهر أنّهما قيدان ذكرًا للتنبيه على أنّ شأن المسلم أن يكون عمله جاريًا على اعتبار مفهوم القيدين وليس مفهوماهما بشرطين لقبول التوبة، وأنّ قوله تعالى: {وليست التوبة للذين يعملون السيّئات} إلى {وهم كفار} قسيم لمضمون قوله: {إنما التوبة على الله} إلخ، ولا واسطة بين هذين القسمين.
وقد اختلف علماء الكلام في قبول التوبة؛ هل هو قطعي أو ظني فيها لتفرّع أقوالهم فيها على أقوالهم في مسألة وجوب الصلاح والأصلح لله تعالى ووجوب العدل.
فأمّا المعتزلة فقالوا: التوبة الصادقة مقبولة قطعًا بدليل العقل، وأحسب أنّ ذلك ينحون به إلى أنّ التائب قد أصلح حاله، ورغب في اللحاق بأهل الخير، فلو لم يقبل الله منه ذلك لكان إبقاء له في الضلال والعذاب، وهو منزّه عنه تعالى على أصولهم، وهذا إن أرادوه كان سفسطة لأنّ النظر هنا في العفو عن عقاب استحقّه التائب من قبل توبته لا في ما سيأتي به بعد التوبة.
وأمّا علماء السنّة فافترقوا فرقتين: فذهب جماعة إلى أنّ قبول التوبة مقطوع به لأدلّة سمعيّة، هي وإن كانت ظواهر، غير أنّ كثرتهاأفادت القطع (كإفادة المتواتر القطعَ مع أنّ كلّ خبر من آحاد المخبرين به لا يفيد إلاّ الظنّ، فاجتماعها هو الذي فاد القطع، وفي تشبيه ذلك بالتواتر نظر)، وإلى هذا ذهب الأشعري، والغزالي والرازي، وابن عطية ووالده أبو بكر ابن عطية، وذهب جماعة إلى أنّ القبول ظني لا قطعي، وهو قول أبي بكر الباقلاني، وإمام الحرمين، والمازري والتفتزاني، وشرف الدين الفهري وابن الفرس في أحكام القرآن بناء على أنّ كثرة الظواهر لا تفيد اليقين، وهذا الذي ينبغي اعتماده نظرًا.
غير أنّ قبول التوبة ليس من مسائل أصول الدين فلماذا نطلب في إثباته الدليل القطعي.
والذي أراه أنّهم لمّا ذكروا القبول ذكروه على إجماله، فكان اختلافهم اختلافًا في حالة، فالقبول يطلق ويراد به معنى رضي الله عن التائب، وإثباته في زمرة المتّقين الصالحين، وكأنّ هذا هو الذي نظر إليه المعتزلة لمَّا قالوا بأنّ قبولها قطعّي عقلًا.
وفي كونه قطعيّا، وكونه عقلًا، نظر واضح، ويدلّ لذلك أنّهم قالوا: إنّ التوبة لا تصحّ إلاّ بعد الإقلاع عن سائر الذنوب ليتحقّق معنى صلاحه.
ويطلق القبول ويراد ما وعد الله به من غفران الذنوب الماضية قبل التوبة، وهذا أحسبهم لا يختلفون في كونه سمعيًا لا عقليًا، إذ العقل لا يقتضي الصفح عن الذنوب الفارطة عند الإقلاع عن إتيان أمثالها في المستقبل، وهذا هو المختلف في كونه قطعيّا أو ظنيّا، ويطلق القبول على معنى قبول التوبة من حيث إنّها في ذاتها عمل مأمور به كلّ مذنب، أي بمعنى أنّها إبطال الإصرار على الذنوب التي كان مصرّا على إتيانها، فإنّ إبطال الإصرار مأمور به لأنّه من ذنوب القلب فيجب تطهير القلب منه، فالتائب من هذه الجهة يعتبر ممتثلًا لأمر شرعي، فالقبول بهذا المعنى قطعي لأنّه صار بمعنى الإجزاء، ونحن نقطع بأنّ من أتى عَملا مأمورًا به بشروطه الشرعية كان عمله مقبولًا بمعنى ارتفاع آثار النهي عنه، ولكن بمعنى الظنّ في حصول الثواب على ذلك.
ولعلّ هذا المعنى هو الذي نظر إليه الغزالي إذ قال في كتاب التوبة إنّك إذا فهمت معنى القبول لم تشكّ في أنّ كلّ توبة صحيحة هي مقبولة إذ القلب خُلق سليمًا في الأصل، إذ كلّ مولود يولد على الفطرة وإنّما تفوته السلامة بكدرة ترهقه من غيرة الذنوب، وأنّ نور الندم يمحو عن القلب تلك الظلمة كما يمحو الماء والصابون عن الثوب الوسخ.
فمن توهّم أنّ التوبة تصحّ ولا تقبل كمن توهّم أنّ الشمس تطلع والظلام لا يزول، أو أنّ الثوب يغسل والوسخ لا يزول، نعم قد يقول التائب باللسان تبت ولا يقلع، فذلك كقول القصّار بلسانه غسلت الثوب وهو لم يغسله فذلك لا ينظّف الثوب.
وهذا الكلام تقريب إقناعي.
وفي كلامه نظر بيِّن لأنّا إنّما نبْحث عن طرح عقوبة ثابتة هل حدثان التوبة يَمْحُوها. اهـ.

.قال الطبري:

وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، قولُ من قال: تأويله: ثم يتوبون قبل مماتهم، في الحال التي يفهمون فيها أمر الله تبارك وتعالى ونهيَه، وقبل أن يُغلبوا على أنفسهم وعقولهم، وقبل حال اشتغالهم بكرب الحَشْرجة وغمّ الغرغرة، فلا يعرفوا أمر الله ونهيه، ولا يعقلوا التوبة، لأن التوبة لا تكون توبة إلا ممن ندمٍ على ما سلف منه، وعزمٍ منه على ترك المعاودة، وهو يعقل الندم، ويختار ترك المعاودة: فأما إذا كان بكرب الموت مشغولا وبغمّ الحشرجة مغمورًا، فلا إخالُه إلا عن الندم على ذنوبه مغلوبًا. ولذلك قال من قال: إن التوية مقبولة، ما لم يغرغر العبد بنفسه، فإن كان المرء في تلك الحال يعقل عقلَ الصحيح، ويفهم فهم العاقل الأريب، فأحدث إنابة من ذنوبه، ورجعةً من شروده عن رَبه إلى طاعته، كان إن شاء الله ممن دخل في وعد الله الذي وعد التائبين إليه من إجرامهم من قريب بقوله: {إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب}. اهـ.

.قال الخازن:

وإنما سميت هذه المدة قريبة لأن كل ما هو آت قريب وفيه تنبيه على أن عمر الإنسان وإن طال فهو قليل وأن الإنسان يتوقع في كل ساعة ولحظة نزول الموت به. اهـ.

.قال الفخر:

فإن قيل: فما فائدة قوله: {فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ الله عَلَيْهِمْ} بعد قوله: {إِنَّمَا التوبة عَلَى الله}.
قلنا: فيه وجهان:
الأول: أن قوله: {إِنَّمَا التوبة عَلَى الله} إعلام بأنه يجب على الله قبولها، وجوب الكرم والفضل والإحسان، لا وجوب الاستحقاق، وقوله: {فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ الله عَلَيْهِمْ} إخبار بأنه سيفعل ذلك.
والثاني: أن قوله: {إِنَّمَا التوبة عَلَى الله} يعني إنما الهداية إلى التوبة والارشاد إليها والاعانة عليها على الله تعالى في حق من أتى بالذنب على سبيل الجهالة ثم تاب عنها عن قريب وترك الاصرار عليها وأتى بالاستغفار عنها.
ثم قال: {فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ الله عَلَيْهِمْ} يعني أن العبد الذي هذا شأنه إذا أتى بالتوبة قبلها الله منه، فالمراد بالأول التوفيق على التوبة، وبالثاني قبول التوبة. اهـ.

.قال الألوسي:

{فَأُوْلَئِكَ} أي المتصفون بما ذكر وما فيه من معنى البعد باعتبار كونهم بانقضاء ذكرهم في حكم البعيد، وجوز أن يكون ذلك إيذانًا ببعد مرتبتهم ورفعة شأنهم من حيث إنهم تائبون، والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم أو لكل أحد ممن يصلح للخطاب، والفاء للدلالة على السببية، واسم الإشارة مبتدأ خبره قوله تعالى: {يَتُوبُ الله عَلَيْهِمْ} وما فيه من تكرير الإسناد لتقوية الحكم، وهذا وعد بالوفاء بما وعد به سبحانه أولًا فلا تكرار، وضمن {يَتُوبُ} معنى يعطف فلذا عدي بعلى.
وجوز أن يكون ذلك من المذهب الكلامي كأنه قيل: التوبة كالواجب على الله تعالى، وكل ما هو كالواجب عليه تعالى كائن لا محالة فالتوبة أمر كائن لا محالة فالآية الأولى واقعة موقع الصغرى والكبرى مطوية، والآية الثانية واقعة موقع النتيجة. اهـ.

.قال الفخر:

{وَكَانَ الله عَلِيمًا حَكِيمًا} أي وكان الله عليما بأنه إنما أتى بتلك المعصية لاستيلاء الشهوة والغضب والجهالة عليه، حكيما بأن العبد لما كان من صفته ذلك، ثم إنه تاب عنها من قريب فإنه يجب في الكرم قبول توبته. اهـ.

.قال الألوسي:

{وَكَانَ الله عَلِيمًا} فيعلم باخلاص من يتوب {حَكِيمًا} فلا يعاقب التائب، والجملة اعتراض مقرر لمضمون ما قبلها، والإظهار في مقام الإضمار للإشعار بعلة الحكم. اهـ.

.قال أبو السعود:

{وَكَانَ الله عَلِيمًا حَكِيمًا} مبالِغًا في العلم والحِكمةِ فيبني أحكامَه وأفعالَه على أساس الحِكمةِ والمصلحةِ والجملةُ اعتراضيةٌ مقرِّرةٌ لمضمون ما قبلَها، وإظهارُ الاسمِ الجليلِ في موضع الإضمارِ للإشعار بعلة الحُكمِ، فإن الألوهية أصلٌ لاتصافه تعالى بصفات الكمالِ. اهـ.

.قال التستري:

قوله تعالى: {إِنَّمَا التوبة عَلَى الله لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السواء بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ} [17] قال: التائب يتقي المعصية ويلزم الطاعة، والمطيع يتقي الرياء ويلزم الذكر، والذاكر يتقي العجب ويلزم نفسه التقصير. اهـ.

.قال صاحب الكشكول:

قوله تعالى: {إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة} اختلفوا في معنى قوله تعالى على وجوه:
أحدها: أن كل معصية يفعلها العبد جهالة وإن كانت على سبيل العمد، لأنه يدعو إليها الجهل ويزينها للعبد، عن ابن عباس وعطا ومجاهد وقتادة، وهو المروي عن أبي عبد الله رضي الله عنه فإنه قال: كل ذنب عمله العبد وإن كان عالمًا فهو جاهل حين خاطر بنفسه في معصية ربه، فقد حكى سبحانه قول يوسف عليه السلام لإخوته: {هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه إذ أنتم جاهلون} فنسبهم إلى الجهل لمخاطرتهم بأنفسهم في معصية الله تعالى.
وثانيها: أن معنى بجهالة: أنهم لا يعلمون كنه ما فيه من العقوبة كما يعلم الشيء ضرورة عن الفراء.
وثالثها: أن معناها: أنهم يجهلون أنها ذنوب ومعاص فيفعلونها، إما بتأويل يخطئون فيه، وإما بأن يفرطوا في الاستدلال على قبحها عن الجبائي وضعف الرماني هذا القول: بأنه خلاف ما أجمع عليه المفسرون، ولأنه يوجب أن لا يكون لمن علم أنها ذنوب توبة، لأن قوله تعالى: {إنما التوبة} يفيد أنها لهؤلاء دون غيرهم. اهـ.

.أسئلة وأجوبة:

سؤال: فإن قيل: ما معنى {من} في قوله: {مِن قَرِيبٍ}؟
الجواب: أنه لابتداء الغاية، أي يجعل مبتدأ توبته زمانا قريبا من المعصية لئلا يقع في زمرة المصرين، فأما من تاب بعد المعصية بزمان بعيد وقبل الموت بزمان بعيد فإنه يكون خارجا عن المخصوصين بكرامة حتم قبول التوبة على الله بقوله: {إِنَّمَا التوبة عَلَى الله} وبقوله: {فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ الله عَلَيْهِمْ} ومن لم تقع توبته على هذا الوجه فإنه يكفيه أن يكون من جملة الموعودين بكلمة {عسى} في قوله: {عَسَى الله أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 102] ولا شك أن بين الدرجتين من التفاوت ما لا يخفى.
وقيل: معناه التبعيض، أي يتوبون بعض زمان قريب، كأنه تعالى سمى ما بين وجود المعصية وبين حضور الموت زمانا قريبا، ففي أي جزء من أجزاء هذا الزمان أتى بالتوبة فهو تائب من قريب، وإلا فهو تائب من بعيد. اهـ.
سؤال: فإن قيل: كيف قال: {إنما التوبة على الله} ولم يقل إنما التوبة على العبد مع أن التوبة واجبة على العبد؟
قلنا معناه: إنما قبول التوبة على الله، بحذف المضاف.
وقيل: إن معنى التوبة من الله رجوعه على العبد بالمغفرة والرحمة؛ لأن التوبة في اللغة الرجوع.
فإن قيل: كيف قال: {بجهالة} ولو عمل بغير جهالة ثم تاب قبلت توبته؟
قلنا: معناه: بجهالة بقدر قبح المعصية وسوء عاقبتها لا بكونها معصية وذنبا، وكل عاص جاهل بذلك حال مباشرة المعصية.
الثانى: معناه أنه مسلوب كمال العلم به بسبب غلبة الهوى وتزيين الشيطان. اهـ.